التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
هي فلسفة وضعية انتحلت الصبغة الدينيَّة، وقد ظهرت في الهند بعد الديانة البرهمية الهندوسية في القرن الخامس قبل الميلاد، نسبت إلى مؤسسها بوذا، ولقد غالى
تعريف البوذية
هي فلسفة وضعية انتحلت الصبغة الدينيَّة، وقد ظهرت في الهند بعد الديانة البرهمية الهندوسية في القرن الخامس قبل الميلاد. وكانت في البداية تُناهض الهندوسية، وتتَّجه إلى العناية بالإنسان، كما أنَّ فيها دعوة إلى التصوف والخشونة، ونبذ الترف، والمناداة بالمحبَّة والتسامح وفعل الخير. وبعد موت مؤسِّسها تحوَّلت إلى معتقدات باطلة، ذات طابعٍ وثني، ولقد غالى أتباعها في مؤسِّسها حتى ألَّهوه.
وهي تُعتبر نظامًا أخلاقيًّا ومذهبًا فكريًّا مبنيًّا على نظريَّاتٍ فلسفيَّة، وتعاليمها ليست وحيًا؛ وإنَّما هي آراءٌ وعقائد في إطارٍ ديني. وتختلف البوذيَّة القديمة عن البوذيَّة الجديدة في أنَّ الأولى صبغتها أخلاقيَّة، في حين أنَّ البوذية الجديدة هي تعاليم بوذا مختلطة بآراء فلسفيَّة وقياسات عقليَّة عن الكون والحياة[1].
بداية البوذية وتطورها
قامت البوذيَّة في بدايتها على مناهضة الهندوسية البرهميَّة، التي أُغرقت في الشكليَّات والطقوس.
وكانت -أي البوذيَّة- متَّجهةً إلى العناية بالإنسان، وراغبةً في إيصاله إلى مرحلة (النرفانا) وهي السعادة القصوى، وذلك عن طريق خشونة العيش، وتعذيب النفس، وقتل جميع شهواتها، ونبذ التَّرف، والمناداة بالمحبَّة، والتسامح، وفعل الخير.
وبعد موت مؤسِّسها تحوَّلت إلى ديانةٍ ذات طابعٍ وثني، تقوم على تأليه بوذا، وتأخذ طابعًا اجتماعيًّا دينيًّا يميل إلى الإلحاد، وتختلف باختلاف الأمكنة[2].
تطور البوذية
قدَّس البوذيُّون بوذا تقديسًا عظيمًا، وكتبوا كثيرًا عن سيرته وأعماله وأفكاره، ودخل في البوذيَّة شعوبٌ وأجناسٌ شتى، ونتج عن ذلك انقسام البوذيَّة إلى قسمين:
البوذية القديمة
وتُسمَّى الجنوبيَّة؛ لانتشارها في بورما وتايلاند وسيلان، وهي في الحقيقة تُؤَلِّه بوذا وتعبده، وزعيمها هو (اللاما) ومقرُّه بلاد التبت، ويعتقد أتباعه أنَّ الإله يحلُّ فيه، وتتميَّز بالرهبانيَّة الشديدة.
البوذية الجديدة
وتُسمَّى الشماليَّة؛ لانتشارها في اليابان وكوريا والصين.
وتتميَّز بالفلسفة والتعمُّق وتعدُّد الآلهة؛ ففي الصين يعتقدون أنَّ الآلهة ثلاثة وثلاثون، واليابانيُّون يعتقدون أنَّ إمبراطورهم من نسل الآلهة[3].
التأسيس وأبرز الشخصيات
أسَّسها سدهارتا جوتاما الملقَّب ببوذا (560 – 480ق.م) وبوذا تعني العالم، ويُلقَّب -أيضًا- بسكيا موني، ومعناه المعتكف.
وقد نشأ بوذا في بلدةٍ على حدود نيبال، وكان أميرًا فشبَّ مترفًا في النعيم، وتزوَّج في التاسعة عشرة من عمره ولمـَّا بلغ السادسة والعشرين هجر زوجته منصرفًا إلى الزهد والتقشُّف، والخشونة في المعيشة، والتأمُّل في الكون ورياضة النفس، وعزم على أن يعمل على تخليص الإنسان من آلامه التي منبعها الشهوات، ثم دعا إلى تبنِّي وجهة نظره؛ حيث تبعه أناسٌ كثيرون.
اجتمع أتباع بوذا بعد وفاته في مؤتمرٍ كبيرٍ في قرية راجاجراها عام (483 ق.م) لإزالة الخلاف بين أتباع المذهب، ولتدوين تعاليم بوذا؛ خشية ضياع أصولها، وعهدوا بذلك إلى ثلاثة رهبان هم:
1- كاشيابا، وقد اهتمَّ بالمسائل العقليَّة.
2- أويالي، وقد اهتمَّ بقواعد تطهير النفس.
3- أناندا، وقد دوَّن جميع الأمثال والمحاورات[4].
بوذا .. مؤسس البوذية
مؤسِّس البوذية رجلٌ يُلقَّب بـ: بوذا، وأمَّا اسمه فهو: سدهارتا، أو سدذارتا.
وبوذا الذي تُنسب إليه هذه الديانة ابن حاكم، وقد وُلِد في حديقة لومبيني بالقرب من مدينة كابيلا فاستو في شمال الهند من إقليم نيبال، وذلك سنة (568 ق.م)، وتختلف تواريخ ميلاده، ولكن ما ذُكِر هو أرجح الأقوال في تاريخ مولده، وتتحدَّث الأساطير عن مولده وما قبله، وأيَّام حمله، فتذكر أنَّه وُلِدَ نظيفًا، لا كما يُولَدُ الأطفال؛ بل نزل من بطن أمِّه وهي واقفةٌ ممسكة بغصن، ولم تشعر بألم، وكان جسمه نظيفًا كالمرآة، وذكروا له معجزات وكرامات.
أمَّا اسمه فقد سُمِّي سدهارتا، أو سدذارتا -كما مرَّ- ومعناه: الذي حقَّق أمله، وأمَّا ألقابه فكثيرة؛ فمنها (شاكياموني) أي: حكيم قبيلة شاكياس، و(بسكياموني) أي: المعتكف، ومن ألقابه (تاذاجاتا) ومعناها: الرجل الفائز بالحق، وأمَّا (بوذا) فمعناه: المستنير، أو العالم.
ونشأ بوذا في بلده على حدود نيبال، وكان أميرًا؛ فشبَّ مترفًا منعَّمًا، وتعلَّم الفروسيَّة، وبالغ مؤرِّخوه في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ في حياته، حتى زعموا أنَّ أربعة آلاف راقصة خُصِّصْنَ لإدخال السرور على قلبه، وأنَّ زوجَه منتقاةٌ من خمسمائة حسناء.
وقد تزوَّج في السادسة عشر من عمره -وقيل: في التاسعة عشر- بـ "ياسواذا" بنت أحد زعماء قبيلة كولي، وعاش معها سعيدًا هانئًا، وأنجبت له ابنه "راهولا".
وبعد عشر سنوات من زواجه صمَّم على أن يبحث عن الحقيقة مهما كلَّفه الأمر، وذلك بعد أن مرَّ عليه صنوف من الآلام، وذلك لِمَا رآه من الأحزان والمصائب.
وعزم على أن يعمل على تخليص الإنسان من آلامه التي منبعها الشهوات، ثم دعا إلى تَبَنِّي وجهة نظره حيث تبعه أناسٌ كثيرون.
وذات ليلةٍ عزم على مغادرة القصر، وهجر زوجته وولده، وهبط إلى الاصطبل، واختار جواده الأبيض وخادمه (شنا).
ويزعمون أنَّ من معجزاته وهو يتهيَّأ لفراق القصر أنَّ أبوابه فُتِحت من تلقاء نفسها، ولم يُسْمَع صوتُ خطوات جواده؛ حتى إذا انتهى إلى نهر أنوما نزل عن جواده ونزع ما كان يتزيَّن به من الجواهر، وجزَّ لِمَّتَه بسيفه، وأعطى خادمه كلَّ ذلك، وأمره أن يعود إلى قصر أبيه، ويُخبره بخبره، ومرَّ به سائلٌ فتبادل معه الملابس.
ثم انتقل بعد سبعة أيَّامٍ من شاطئ أنوما، وغادره إلى مدينة إجاجريها عاصمة الملك بمبيارا ملك مملكة ماجاذا، حيث يُقيم في كهوف "تلال ونديا" نُسَّاك وقفوا حياتهم للتأمُّل والتفكير، ودراسة فلسفات الهند القديمة؛ رجاء أن يُوفَّقوا لحلِّ مشكلة الحياة، ويفكُّوا ألغازها المغلقة، وقَصَد الغار الذي فيه الناسكان ألاراكالاما وأداكا، وكانت شهرة ألارا البرهمي واسعة.
وعندما دخل غار ألارا وجده مستغرقًا في تأمُّله وتفكيره، فوقف في إجلالٍ وصمتٍ بين يديه خاشعًا، وهجست في نفسه خاطرة: أَتُرَى أجد لديه مفتاح السر؟
بعد ذلك جلس إليهما، وأخذ منهما ما لديهما، ودرس عليهما أسفار الفيدا، واليوبانيشاد، واتَّخذ له كهفًا، وكان موضع إعجاب النُّسَّاك جميعًا، وطابت له حياة الزهادة والتقشُّف، وأرسل إليه والده يطلبه، ولكنَّه اعتذر، وقد وصل بوذا إلى درجةٍ عالية، وهي مرشد النسَّاك.
وبعد سنتين أدرك أنَّ البرهميَّة عاجزةٌ عن حلِّ لغز الوجود، ومشكلة الحياة؛ فانصرف إلى غابةٍ بالبنغال، وقسا على نفسه، وتقلَّب في أشدِّ ضروب التقشُّف والحرمان، وقضى ستَّ سنواتٍ على هذه الحال حتى أشرف على الهلاك، وذاع صيته في الآفاق.
ولكن ذلك التعذيب للجسد والسكون التام لم يصلا به إلى غايته، بل عاقه ذلك الضعف الذي أصابه من جرَّاء التعذيب عن القوَّة والتفكير.
ثم صمَّم بعد ذلك على ترك الحياة التي حَيِيَها ممَّا حمل أتباعه النسَّاك الخمسة أن يُثنوه عن عزمه، فلم يُفلحوا، واعتبروا ذلك منه رِدَّة، واتَّهموه بأنَّه حادَ عن الطريق، وتركوه ومضوا إلى مرج الغزال في مدينة بنارس.
واستعاد سدذارتا -بوذا- نشاطه وقوَّته ومضى إلى شجرة، وجلس تحتها، ورأى رجلًا لديه حشائش؛ فسأله قبضةً منها فأعطاه، وجلس متربِّعًا ضامًّا يديه وقدميه، وعزم ألَّا يُبارح مكانه، وألَّا يُرسل ما ضمَّ حتى يتنزَّل عليه نور الحكمة والمعرفة، وآلى على نفسه أن يبقى ولو نخرت عظامه، وجفَّ جلده، وتلف جسده.
وتقول الأساطير: إنَّ نوازع نفسه أخذت تُصارعه، ولكنَّه انتصر على الإغراء وهزمها في الصراع، وما كاد ينتهي الليل، ويغشى الأرضَ سنا الفجر حتى أشرقت معه في قلبه وعقله الحقيقةُ الساميةُ، والمعرفةُ الصحيحة، وأدرك ما كان يرجو من الماضي والحاضر والمستقبل كل لا يتجزَّأ، وعرف سرَّ الحياة والموت، والعلَّة والمعلول، ورحلة الروح في مختلف الأجسام: متى تصعد إلى النرفانا حيث العدم العام، وفناء النفس وهي السكينة والفناء.
ولكنَّه فناءٌ ليس الفناء المعروف؛ وإنَّما هو وجود يفنى في وجود، مثل فناء ألوان الطيف في الشمس، في البياض الناصع الذي لا لون له، كما يزعم بعض فلاسفة البوذيِّين العصريِّين.
ولا يُوصَل إلى النرفانا إلَّا بعد صفاء النفس والفضائل في عالم الحسِّ والواقع، ومرَّ به النهار ثم الليل، ولم يشعر بهما؛ لأنَّه كان غارقًا في سُبُحَاته، ثم صحا صحوةَ المنتصرِ والفرحُ يملأ قلبه؛ لأنَّه انتهى إلى ما كان يرجو، وتحقَّق له ما كان يأمل، وهبطت عليه الاستنارة فكان بوذا.
واستفاضت شهرته، وقصده الناس، ومضى إلى بنارس، وقصد مرج الغزال إلى النُّسَّاك الخمسة الذين هزءوا به، واتَّهموه، وتركوه فما كادوا يبصرونه حتى هزمتهم هيبتُه وراعهم منظره؛ فَهَبُّوا لاستقباله، وتسابقوا إلى تحيَّته، وجاءوا بماءٍ لغسل قدميه، فألقى عليهم أوَّل درسٍ من دروسه، فإذا الفرح يملأ قلوبهم، ويفيض على وجوههم بشرًا، ثم بعد ذلك دَوَّت شهرته آفاق الهند، واجتذبت شريعته الجديدة شباب الأسر العريقة، والتفَّت به الجموع، وكثر مريدوه.
وأصبح داعيًا لِمَا توصَّل إليه إلى أن تُوفِّي في الثمانين من عمره سنة (488 ق.م)، وأُحْرِق جسده بعد موته بثمانية أيَّام. هكذا تقول الأساطير عنه[5].
مراحل انتشار البوذية
إنَّ التاريخ الإجمالي للبوذية يُقرِّر أنَّ هذه الديانة واصلت سيرها طوال خمسة وعشرين قرنًا، وفي خلال هذه الفترة الطويلة تطوَّرت البوذية سواءٌ من ناحية العقيدة أم التطبيق أم الأدب أم المؤسَّسات المرتبطة بها، كالمعابد والمعاهد، وقد اقتحمت البوذيَّة حوالي ثلاثين قطرًا في آسيا، وكان تأثيرها عظيمًا في آداب هذه الأقطار وفي اتِّجاهاتهم الدينيَّة، ومنذ القرن التاسع عشر اتَّصل الفكر البوذي ببعض دول أوروبَّا، فأصبح للفكر البوذي أثره في الفلسفة الغربيَّة والأدب الأوروبِّي والموسيقى وغيرها من الفنون الثقافيَّة.
ذلك مجمل القول نحو تمدُّد البوذيَّة وانتشارها، ولكن إعطاء تفاصيل عن هذا الانتشار يكاد يكون أمرًا متعذَّرًا لقلَّة المادَّة الدقيقة عنه، ومن الممكن على كلِّ حالٍ لو قسَّمنا عمر البوذية إلى خمس مراحل، كلُّ مرحلةٍ خمسة قرون، أن نلحظ أبرز التطوُّرات عن البوذية في كلٍّ من هذه المراحل.
شهدت الفترة الأولى (من مطلع البوذية حتى القرن الأوَّل الميلادي) تحوُّلًا كبيرًا في العقيدة البوذية فيما يتَّصل ببوذا؛ فقد كان في أوَّل هذه الفترة يُعدُّ معلِّمًا ورجلًا عظيمًا ورائدًا عالميًّا، ثم أصبح بمرور السنين رجلًا مقدَّسًا، فمعبودًا، فإلهًا. ولم يكن ذلك التطوُّر الواسع باتِّفاق الجميع، ولذلك عُقِدَت عدَّة مؤتمرات للتوفيق. ولكنَّها لم تستطع أن تُقنع الجماهير بترك مكان الإله شاغرًا كما أراده بوذا أن يكون، فظلَّ الخلاف قائمًا.
وفي خلال هذه الفترة ظهر الإمبراطور آسوكا الذي دفع بالبوذية إلى خارج حدود الهند -كما سبق القول- وبدأت البوذية تبني المعابد، وتضع فيها الآلهة، كما بدأت تُقيم الجمعيَّات التي ترعى الحياة الاجتماعية، وتُشرف على شئون الدين، خاصَّة في الهند وسيلان.
وفي الفترة الثانية -أي من القرن الأوَّل حتى القرن الخامس الميلادي- أخذت البوذية تنتشر تجاه الشرق إلى البنغال، وتجاه الجنوب الشرقي إلى كمبوديا وفيتنام، وتجاه الشمال الغربي إلى كشمير.
وفي القرن الثالث اتخذت طريقها تجاه الشرق إلى الصين وأواسط آسيا، وكان دخولها إلى الصين بطريق البحر أيضا، ومن الصين اتجهت إلى الشمال الشرقي، فدخلت كوريا، وكان لنشاط الحجاج الصينيِّين الذين زاروا الهند وسيلان وجاوه بين سنة (399م) وسنة (414م) أثرٌ كبيرٌ في نشر البوذية في هذه البقاع، وكانت البوذية في هذه البقاع تتعاون تعاونًا كاملًا مع النظام الملكي الذي كان مسيطرًا خلال هذه القرون على هذه الأقطار، وبواسطة هذا الارتباط بين الدين والسياسة انتشرت البوذية وكثر تابعوها، وشهدت هذه المدَّة تقدُّمًا واضحًا في الثقافة البوذية التي أخذت تقيم المعاهد، وتنشر تراثها على أتباعها.
وفي المدَّة التالية -أي من القرن السادس إلى العاشر الميلادي- استمرَّت البوذية في التقدُّم والانتشار، وبخاصَّة من كوريا والصين إلى اليابان، ومن الهند إلى نيبال، ثم إلى التبت، وزادت مواكب الحجاج في هذه الفترة، وكثر نشاطهم وتنقلهم إلى البلاد التي دخلتها البوذية ولم يكن دائمًا وطيدًا، وكان انتشار البوذية أو تقلُّصها يتوقَّف على قوَّة الارتباط وضعفه، وتعدُّ هذه الفترة من أزهى فترات البوذية من الناحية الثقافية؛ فقد اتضح تأثير البوذية على الآداب والفنون في جميع البلدان التي دخلتها.
وفي المدة التالية -أي من القرن الحادي عشر إلى الخامس عشر- ضعفت البوذية، واختفى كثيرٌ من آثارها، وذلك لعودة النشاط الهندوسي في الهند، ولظهور الإسلام في الهند، وفي سواها من الأقطار التي كانت تتربَّع فيها البوذية، ولكن البوذية اتجهت بنشاطها في هذه الفترة -فارَّة من الإسلام- تجاه لاوس ومنغوليا وبورما، وكان للنشاط الثقافي البوذي عظيم الأثر خلال هذه الفترة في بورما وكمبوديا وسيلان واليابان.
أمَّا الفترة الأخيرة -أي من القرن السادس عشر إلى القرن العشر- فتُعتبر فترةً دقيقةً في تاريخ البوذية؛ إذ وقفت البوذية وجهًا لوجهٍ متحدِّيةً الفكر الغربي الذي حمله الاستعمار إلى تلك البقاع؛ فقد أدخل الاستعمار الغربي إلى هذه البلاد اتجاهاته الفكريَّة وإصلاحاته التربويَّة وفلسفاته في مختلف الشئون، ولم تجد البوذية بدًّا من أن تتعاون طوائفها المختلفة لتقف في وجه الزحف الفكري، وهكذا التقت الفرق البوذية، أو قربت بعضها من بعض؛ لتقوى على النضال في معركتها مع المسيحيَّة الغربيَّة والفلسفات الأوروبِّيَّة، وقد تبنَّت البوذية كثيرًا من الاتجاهات الغربيَّة، كما تشرَّبت المسيحيَّة بعض الأفكار البوذيَّة، وتُبودلت المطبوعات بين المشرفين على هاتين الفلسفتين وتطور التعليم في المعابد، فاقترب من كليات الغرب وجامعاته، وحدث تعاونٌ في الخدمات الاجتماعية بين البوذيِّين والغربيِّين.
وفي نهاية هذه الفترة اصطدمت البوذية بالشيوعية، وأصبح الحكم في كثيرٍ من الأقطار التي تنتشر بها البوذية في أيدي حكومات شيوعيَّة[6].
الانتشار ومواقع النفوذ
الديانة البوذية منتشرة بين عددٍ كبيرٍ من الشعوب الآسيويَّة، حيث يدين بها أكثر من ستمائة مليون نسمة، ولهم معبد ضخم في كاتمندو بالنيبال، وهو عبارة عن مبنى دائري الشكل، وتتوسَّطه قبَّةٌ كبيرةٌ وعالية، وبها رسمٌ لعينين مفتوحتين وجزءٌ من الوجه، ويبلغ قطر المبنى (40) مترًا، أمَّا الارتفاع فيزيد عن خمسة أدوار مقارنة بالمباني ذات الأدوار، والبوذية مذهبان كما تقدَّم:
المذهب الشمالي: وكتبه المقدَّسة مدوَّنة باللغة السنسكريتيَّة، وهو سائدٌ في الصين واليابان والتبت ونيبال وسومطره.
المذهب الجنوبي: وكتبه المقدَّسة مدوَّنة باللغة البالية، وهو سائدٌ في بورما وسيلان وسيام.
ويُمكن تقسيم انتشار البوذيَّة إلى خمس مراحل:
1- من مطلع البوذيَّة حتى القرن الأوَّل الميلادي، وقد دفع الملك آسوكا البوذيَّة خارج حدود الهند وسيلان.
2- من القرن الأوَّل حتى القرن الخامس الميلادي، وفيها أخذت البوذيَّة في الانتشار نحو الشرق إلى البنغال، ونحو الجنوب الشرقي إلى كمبوديا وفيتنام، ونحو الشمال الغربي إلى كشمير، وفي القرن الثالث اتَّخذت طريقها إلى الصين وأواسط آسيا، ومن الصين إلى كوريا.
3- من القرن السادس حتى القرن العاشر الميلادي، وفيه انتشرت في اليابان ونيبال والتبت، وتعدُّ من أزهى مراحل انتشار البوذيَّة.
4- من القرن الحادي عشر إلى القرن الخامس عشر، وفيها ضعفت البوذيَّة، واختفى كثيرٌ من آثارها؛ لعودة النشاط الهندوسي وظهور الإسلام في الهند، فاتَّجهت البوذيَّة إلى لاوس ومنغوليا وبورما وسيام.
5- من القرن السادس عشر حتى الآن، وفيه تُواجه البوذيَّة الفكر الغربي بعد انتشار الاستعمار الأوروبِّي، وقد اصطدمت البوذيَّة في هذه الفترة بالمسيحيَّة، ثم بالشيوعيَّة بعد أن صار الحكم في أيدي الحكومات الشيوعيَّة.
ويتضح مما سبق:
أنَّ البوذية فلسفة وضعيَّة انتحلت الصبغة الدينيَّة، وقد ظهرت في الهند بعد الديانة البرهميَّة، وقامت على أساس أنَّ بوذا هو ابن الله، ومخلِّص البشريَّة من مآسيها، وقد قال لأمه وهو طفل: إنَّه أعظم الناس جميعًا. ولمـَّا مات بوذا قال أتباعه: إنَّه صعد إلى السماء بجسده بعد أن أكمل مهمَّته على الأرض، وإنَّه سيرجع ثانيةً إلى الأرض؛ ليُعيد السلام والبركة إليها. ويقول بعضهم: إنَّ بوذا أنكر الألوهيَّة والنفس الإنسانيَّة، وأنَّه كان يقول بالتناسخ.
وتعتمد جميع كتب البوذيِّين على الآراء الفلسفيَّة ومخاطبة الخيال، وتختلف البوذيَّة في الصين عنها في الهند بحسب نظرة الفلاسفة[7].
مراجع للتوسع:
- الملل والنحل جـ2، محمد بن عبد الكريم أبو الفتح الشهرستاني.
- مقارنة الأديان (الديانات القديمة)، محمد أبو زهرة.
- في العقائد والأديان، د. محمد جابر عبد العال الحيني.
- المجلة العربية: مقال للدكتور محمد بن سعد الشويعر.
- المدخل إلى دراسة الأديان والمذاهب، للعميد عبد الرزاق أسود.
- أديان الهند الكبرى - أحمد شلبي.
- حضارة الهند - غوستاف لوبون.
- أديان العالم الكبرى - حبيب سعيد.
- دائرة معارف القرن العشرين - محمد فريد وجدي.
- الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة - عبد القادر شيبة الحمد.
-Encyclopedia Britannica, Vol. 3 P. 369 – 414 (Press 1979) .
الهوامش:
[1] الندوة العالمية للشباب الإسلامي: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، إشراف ومراجعة: د. مانع بن حماد الجهني، دار الندوة العالمية، الطبعة: الرابعة، 1420هـ.
[2] محمد الحمد: رسائل في الأديان والفرق والمذاهب، ص40.
[3] سفر الحوالي: أصول الفرق والمذاهب الفكرية، ص109.
[4] الموسوعة الميسرة للندوة العالمية للشباب الإسلامي.
[5] انظر: الديانات والعقائد 1/116- 117، وذيل الملل والنحل 13/2- 16، والموسوعة الميسرة للندوة العالمية للشباب الإسلامي 2/758، وإحسان إلهي ظهير: التصوف .. المنشأ والمصادر، ص53- 55.
[6] أحمد شلبي: أديان الهند الكبرى، ص183.
[7] الموسوعة الميسرة للندوة العالمية للشباب الإسلامي.
التعليقات
إرسال تعليقك